سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قلت: {فتنقلبوا}: منصوب بأن في جوب النهي، أو عطف على المجزوم، و{ما داموا}: بدل من {أبدًا}؛ بدل بعض، و{أخي} يحتمل النصب عطف على {نفسي}، أو رفع عطف على {أن} مع اسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أو جر عطف على ياء المضاف، على مذهب الكوفيين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكيًا عن موسى عليه السلام: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة}؛ أرض بيت المقدس، قدسها الله، حيث جعلها قرار أنبيائه ومسكن المؤمنين. وفي مدحها أحاديث كثيرة. وقيل: الطور وما حوله، أو دمشق وفلسطين، أو الشام، {التي كتب الله لكم} أي: التي كتب الله في اللوح المحفوظ، أنها لكم مسكنًا إن جاهدتم وأطعتم نبيكم، {ولا ترتدوا على أدباركم} أي: لا ترجعوا مدبرين هاربين خوفًا من الجبابرة، أو: لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان، وعدم الوثوق بالله، {فتنقلبوا خاسرين} الدنيا والآخرة. رُوِي أنهم لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا، وقالوا: ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسًا ينصرف بنا إلى مصر، ثم {قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين} أقوياء متغالبين، لا طاقة لنا بمقاومتهم، وهم قوم من العمالقة، من بقية قوم عاد، {وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها} بأمر سماوي، أو يُسلط عليهم من يخرجهم من غيرها، {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} فيها.
{قال رجلان}؛ كالب بن يوقنّا، ويوشع بن نون ابن آخت موسى وخادمه {من الذين يخافون} الله، أو رجلان من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى، وعليه قراءة {يُخافان} بضم الياء، {أنعم الله عليهما} بالإسلام والتثبت، قالا: {ادخلوا عليهم الباب} أي: باب المدينة، أي: باغِتوهم بالقتال، {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} أي: ظاهرون عليهم، فإنهم أجسام لا قلوب فيها. يحتمل أن يكون علمهما بذلك من قِبل موسى، أو من قوله تعالى: {التي كتب الله لكم}، أو من عادته سبحانه في نصر رسله وأوليائه، وما عَهِدا من صنيعه تعالى مع موسى من قهر أعدائه. ثم قال: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} به، ومصدقين لوعده.
{قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها}، وهذا من تعنتهم وعصيانهم، وأشنعُ منه قولهم: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}، قالوه استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما، وانظر فضيلة الأمة المحمدية، وكمال أدبها مع نبيها عليه الصلاة والسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صُد عن البيت: إني ذاهب بالهدي فناحِرُه عند البيت، فقال المقداد بنُ الأسود: أما والله ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أنت وربك فقَاتلا إنا هآهنا قاعدون}، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك من خلفك، ولو خُضت البحر لخضناه معك، ولو تسنَمت جبلاً لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا إلى بَرك الغماد لتبعناك، فلما سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه على ذلك فَسُرَ صلى الله عليه وسلم وأشرق وجهه. اهـ.
ولما سمع موسى مقالة قومه له غضب، ودعا ربه فقال: {ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي} أي: لا أثق إلا بنفسي وأخي، ولا قدرة لي على غيرهما، والرجلان المذكوران، وإن كانا موافقين له، لكنه لم يوثق عليهما، لما كبد من تلوّن قومه، ثم دعا عليهم فقال: {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} أي: احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم، أو بالتبعيد بيننا وبينهم، وتخليصنا من صحبتهم.
رُوِي أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام، وأوحى الله إليه: يا موسى إلى متى يعصي هذا الشعب؟ لأُهلكنهم جميعًا، فشفع فيهم موسى عليه السلام فقال الله تعالى له: قد غفرت لهم بشفاعتك، ولكن بعد ما سَميتَهم فاسقين، ودعوت عليهم، بي حلفت لأحرمنَّ عليهم دخول الأرض المقدسة، وذلك قوله تعالى: {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} يحتمل أن يكون {أربعين} متعلقًا بمحرمة، فيكون التحريم عليهم مؤقتًا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله: {التي كتب الله لكم}.
ويؤيد هذا ما رُوِي أن موسى عليه السلام لما خرج من التيه، سار بمن بقي معه من بني إسرائيل، ويوشع على مقدمته، ففتح بيت المقدس، فبقي فيها ما شاء الله، ثم قبض. ويحتمل أن يكون {أربعين} متعلقًا ب {يتيهون}، فيكون التحريم مؤبدًا، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له: {اذهب أنت وربك...}، بل كلهم هلكوا في التيه، وإنما دخلها أشياعهم.
رُوِي أن موسى عليه السلام لما حضره الموت في التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وأن الله أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع، وقاتل الجبابرة وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت، فخشي أن يعجزوه، فقال: اللهم اردد الشمس عليَّ، وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعته، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم، ثم قتل ملوك الأرمانيين، وقتل مِن ملوك الشام أحدًا وثلاثين ملكًا، فصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرَّق عماله في تواحيها، وبقيت بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في ستة فراسخ، بين فلسطين وأيلة، متحيرين، يسيرون من الصباح إلى السماء جادين في السير، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، ثم يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى، واختلف في الكسوة، فقيل: أبقى الله كسوتهم معجزة لموسى، وقيل: كساهم مثل الظفر.
والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة في درجاتهما، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه، مات هارون أولاً ودفنه أخوه في كهف، وقيل: رُفع على سرير في قبة، ثم مات موسى عليه السلام ودفن بقرب من الأرض المقدسة، رمية بحجر، كما في الحديث، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى لموسى عليه السلام: {فلا تأس} أي: لا تخزن، {على القوم الفاسقين}، خاطبه الحق تعالى بذلك لمَّا ندم على الدعاء عليهم، فقال له: أنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم.
الإشارة: يقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه من المريدين: ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب الله لكم، إن دمتم على جهاد أنفسكم، وصدقتم في طلب ربكم، وبقيتم في تربية شيوخكم، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل، قتنقلبوا خاسرين، فإن حضرتي محفوفة بالمكاره، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب، قال: لن ندخلها أبدًا ما دام القواطع فيها، ورجع على عقبيه، يتيه في مهامه شكوكه وأوهامه، وإن كان ممن سبقت له العناية وحقت به الرعاية قال: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، فيبادر إلى قتل نفسه، من غير تأن ولا خوف ولا فزع، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله:
وإيَّاك جَزعًا لا يَهُولُكَ أمرُهَا *** فَمَا نَالَهَا إلا الشُّجاعُ المُقّارعُ
وقال الورتجبي في قوله تعالى: {لا أملك إلا نفسي وأخي}: من بلغ عين التمكين ملك نفسه وملك نفوس المريدين؛ لأنه عرفها بمعرفة الله، وقمعها من الله بسلطان سائس قاهر، من نظر إليه يفزع من الله، ولا يطيق عصيانه ظاهرًا وباطنًا، فأخبر عليه السلام عن محلّ تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه، وأعلمنا أن بينهما اتحادًا، بحيث إنه إذا حكم على نفسه صار نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال. قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كنفس واحدة».


قلت: الضمير في {عليهم}: لبني إسرائيل؛ لتقدم شأنهم، ولاختصاصهم بعلم قصة بني ابني آدم، ولإقامة الحجة عليهم بهمهم ببسط اليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واتل عليهم} أي: على بني إسرائيل؛ إذ الكلام كان معهم، أو على جميع الأمة، أو على جميع الناس، إذ هو أول الكلام على بقية حفظ الأبدان {نبأ ابني آدم} وهو قابيل وهابيل {بالحق} أي: تلاوة ملتبسة بالحق، أو نبأ ملتبسًا بالحق موافقًا لما في كتب الأوائل.
{إذ قرّبا قربانًا فتُقبل من أحدهما} وهو هابيل، {ولم يتُقبل من الآخر} وهو قابيل، وسبب تقريبهما القربان أن آدم عليه السلام كان يُولد له من حواء توأمان في كل بطن: غلام وجارية، إلا شيتًا، فإنه ولد منفردًا، وكان جميع ما ولدته حواء أربعين، بين ذكر وأنثى، في عشرين بطنًا، أولهم قابيل، وتوأمته أقليما، وآخرهم عبد المغيث، ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده، وولد ولده، أربعين ألفًا، ورأى فيهم الزنا وشُرب الخمر والفساد، وكان غشيان آدم لحواء بعد مهبطهما إلى الأرض، وقال ابن إسحق عن بعض العلماء بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة، قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت في الجنة بقابيل وتوأمته، ولم تجد عليهما وحمًا ولا غيره، وحملت في الأرض بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الرحم والوصب والطلق والدم.
وكان آدم إذا كبر ولده يزوج غلام هذا البطن بجارية بطن آخر، فكان الرجل يتزوج أيّ أخواته شاء إلا تَوأمَته، لأنه لم يكن نساء يومئٍذ، فأمر الله تعالى آدم أن يزوج قابيل لَودَاء توأمة هابيل، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أحسن الناس، فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: أختي أحسن، وهي من ولادة الجنة، وأنا أحق بها، فقال له أبوه: لا تحل لك، فأبى، فقال لهما آدم: قربًا وقربانًا، فأيكما قُبل قربانه فهو أحق بها.
وكان قابيل صاحب زرع، فقرَّب حِملاً من زرع رديء، وأضمر في نفسه: لا أُبالي قُبل أو لا، لا يتزوج أختي أبدًا، وكان هابيل صاحب غنم، فقرّب أحسن كبش عنده، وأضمر في نفسه الرضا لله تعالى، وكانت العادة حينئٍذ أن تنزل نارٌ من السماء فتأكل القربان المقبول، وإن لم يقبل لم تنزل، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسده، وقال له: {لأقتلنك}، حسدًا على تقبل قربانه دونه، فقال له أخوه: {إنما يتقبل الله من المتقين} الكفر، أي: إنما أُوتيت من قبل نفسك بترك التقوى، لا من قِبلي، فِلمَ تقتلني؟
قال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا، لا في إزالة حظه، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقي. اهـ.
وفيه نظر: فإن تقوى المعاصي ليست شرطًا في قبول الأعمال بإجماع أهل السنة، إلا أن يحمل على تقوى الرياء والعجب. انظر الحاشية.
ثم قال له أخوه هابيل: {لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين} أي: لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك به، أو لم أدفعك عني، وهل تركه للدفع تورع، وهو الظاهر أو كان واجبًا عندهم، وهو قول مجاهد؟ وأما في شرعنا: فيجوز الدفع، بل يجب، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي: قيل: كان هابيل أقوى منه، فتحرج عن قتله، واستسلم له خوفًا من الله، لأن الدفع لم يُبح بعدُ، أو تحريًا لِمَا هو الأفضل. قال صلى الله عليه وسلم: «كُن عبدَ الله المقتُول، ولا تكُن عبدَ الله القاتل» وإنما قال: {ما أنا بباسط} في جواب {لئن بسطت}؛ للتبري من هذا الفعل الشنيع، والتحرز من أن يوصف به، ولذلك أكد النفي بالباء. اهـ.
ثم قال له هابيل: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار} أي: إني أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى الله ملتبسًا بإثمي، أي: حاملاً لإثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك بيدك إليّ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: «المُستَبَّان ما قَالاَ فَعَلى البادِىء منهما مَا لَم يَعتَدِ المَظلُومُ» أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، أو بسائر ذنوبي فتحملها عني بسبب قتلك لي؛ فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح في النار، ولذلك قال: {وذلك جزاء الظالمين}، يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئناف من كلام الله تعالى، أي: جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين، ثم يطرحون في النار، كما في حديث المفلس.
ولم يرد هابيل بقوله: {إني أريد}، أنه يُحب معصية أخيه وشقاوته، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعًا فأريد أن يكون لك لا لي، والمقصود بالذات: ألا يكون له، لا أن يكون لأخيه. ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته. وإرادة عقاب العاصي جائزة. قاله البيضاوي.
{فطوّعت له نفسه قتل أخيه} أي: سهلت له ووسِعته ولم تضق منه، أو طاوعته عليه وزينته له، {فَقتله فأصبح من الخاسرين} دينًا ودنيا، فبقي مدة عمره مطرودًا محزونًا. قال السدي: لما قصد قابيلُ قتل هابيل، راغ هابيل في رؤوس الجبال، ثم أتاه يومًا من الأيام، فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات، وقال ابن جريج: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلمه القتل، فوضع رأس أخيه على حجر ثم شدخه بحجر آخر.
وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، وقبره قيل: عند عقبة حراء، وقال ابن عباس: عند ثور وقال جعفر الصادق: بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم.
الإشارة: قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى: أولها: التطهير من رذيلة الحسد، لاذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدم الكلام عليه في النساء، الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص، والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)؛ فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال «اللهم اعفِر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ».


قلت: {ليريه} أي: يعلمه، وضمير الفاعل يعود على الله أو الغراب، و{كيف}: حال من الضمير في {يُواري} والجملة مفعول ثان ليرى، أي: ليعلمه الله، أو الغراب، كيفية مواراة أخيه، و{يا ويلتا}: كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم، كيا حسرتا ويا أسفا، وأصبح هنا بمعنى صار.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض} أي: يحفر فيها، {ليريه} أي: الله، أو الغراب، {كيف يُواري} أي: يستر {سوءة أخيه} أي: جسده؛ لأنه مما يستقبح أن يرى، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، فعلَّم اللهُ قابيل كيف يصنع بأخيه؛ لأنه لم يدر ما يصنع به، إذ هو أول ميت مات من بني آدم، فتحير في أمره، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدُهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثم ألقاه في الحفرة وغطاه بالتراب.
قال قابيل لما رأى ذلك: {يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي} فأهتَدِي إلى ما اهتدى إليه، فحفر لأخيه ودفنه {فأصبح من النادمين} على قتله، لِما كابد فيه من التحير في أمره، وحَملِه على رقبته سنة أو أكثر، وتلمذة الغراب له، واسوداد لونه، وتبرّي أبويه منه، إذ رُوِي أنه لما قتله أسود وجهه، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنتُ عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته؛ فلذلك اسود جسدك، وتبرأ منه، ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك، وعدم الظفر بما فعله من أجله. قاله البيضاوي، فانظره مع ما سيأتي عن الثعلبي.
واختلف في كفره؛ فقال ابن عطية: الظاهر أنه لم يكن قابيل كافرًا، وإنما كان مؤمنًا عاصيًا، ولو كافرًا ما تخرج أخوه من قتله، إذ لا يتحرج من قتل كافر؛ لأن المؤمن يأبى أن يقتل موحدًا، ويرضى بأن يُظلَمَ ليجازي في الآخرة. ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه لما قصد أهل مصر قتله مع عبد الرحمن بن أبي بكر، لشُبهةٍ، وكانوا أربعة آلاف، فأراد أهل المدينة أن يدفعوا عنه، فأبى واستسلم لأمر الله. قال عياض: منعه من الدفع إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سَبَقَ به القدر. حيث بشره بالجنة على بلوى تصيبه، كما في البخاري، ونقل عن بعض أهل التاريخ: أن شيتًا سار إلى أخيه قابيل، فقاتله بوصية أبيه له بذلك، متقلدًا بسيف أبيه. وهو أول من تقلد بالسيف، فأخذه أخاه أسيرًا وسلسله، ولم يزل كذلك حتى قبض كافرًا. اهـ.
قلت: ولعل تحرّج أخيه من قتله؛ لأنه حين قصد قتله لم يُظهِر كفره، وظهر بعد ذلك، فلذلك قاتله أخوه شيت بعد ذلك وأسره، وذكر الثعلبي: أن قابيل لما طرده أبوه، أخذ بيد أخته أقليمًا، فهرب بها إلى أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، وهو أول من عبد النار. اهـ. فهذا صريح في كفره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم، إذا فزعوا إليه والتجأوا إلى حماه؟! فكل من وقع في حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى يجعل له فرجًا ومخرجًا من أمره، إما بواسطة أو بلا واسطة. كن صادقًا تجد مرشدًا، {فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محَمَّد: 21]. والله تعالى أعلم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9